|
نطاق تجريم التأييد والتعاطف مع الجماعات الإرهابية
د.فهد بن نائف الطريسي
أستاذ القانون المشارك بجامعة الطائف
يجرم النظام عبر الأمر الملكي رقم ١٦٨٢٠، تأييد التنظيمات والجماعات الارهابية أو التعاطف معها. كما نص ذات الامر بأن المخالف ستتم محاسبته على المخالفات السابقة واللاحقة لهذا النظام.
وسنحاول هنا وباختصار نرجو ألا يكون مخلا بيان حدود التجريم في مسألتين موضوعيتين، ومسألة شكلية، اما المسألتان الموضوعيتان، فهما حدود التأييد والتعاطف، وأما المسألة الشكلية فهي حدود تطبيق هذا الأمر من حيث الزمان.
لقد شكل الإرهاب منذ أكثر من ثلاثة عقود تهديداً مستمراً للشعوب والدول، إذ الإرهاب هو دوغما متطرفة، والدوغما هو الاعتقاد المطلق في صحة الرأي، والاعتقاد المطلق في عدم صحة الرأي الآخر. وينبني على ذلك الاعتقاد، استنادٌ متطرفٌ لامتلاك الحقيقة، يجيز القتل والتفجيرات والذبح وخلافه من الأعمال الذميمة، التي يستنكفها الإنسان المتحضر ذو الضمير المستنير.
عانت كل الدول العربية -على وجه الخصوص- من العنف الإرهابي، الذي أقعد بتقدمها السياسي والاقتصادي والعلمي، في الجزائر ومصر والمغرب وتونس، والكويت والعراق وسوريا...الخ. فالتيارات الإرهابية لا تعترف بالحدود السياسية للدولة، وبالتالي لا تعترف بشيء يسمى الوطن. ولذلك يعتمدون الكنايات التي تعبر عن الجهات المختلفة التي يقدم منها الإرهابي، كالبغدادي، والمصري، والشامي...الخ للتأكيد على أن منهجهم الإجرامي لا تحده حدود، بل هو منهج عالمي يتمدد في العالم بأسره.
وعانت المملكة كذلك من الإرهاب بقوة في الثلاثين سنة الماضية، فقتل فيها من قتل بتفجير المصالح الحكومية من امنية وتنموية وامتدت يد الغدر الى المساجد وافراح الزفاف بل وحتى مجالس العزاء في الموتى، واستهلكت المملكة طاقة كبرى في السعي لتجفيف منابع الإرهاب عبر تجفيف منابع الفكر الإرهابي، ونادت علماءها الإجلاء فتنادوا على كلمة سواء وهو الاعتدال والوسطية التي هي أصل من أصول الإسلام الذي جعل المسلمين امة وسطا، وجعل خير أمورها أوسطها، فلا إفراط ولا تفريط. وكان هذا هو التأمين الفكري الذي سعت إليه الدولة بشتى السبل، في وسائل الإعلام المختلفة الرسمية وغير الرسمية. غير أن التناصح والوعظ باجتماع الأمة التي لا تجتمع على باطل، لا يكفي بذاته، فهناك من الأشقياء الذين مردوا على شق عصا الجماعة، لا يرعون إلا ولا ذمة. ولا يرغبون في استقرار أمر الشعوب المسلمة، وهؤلاء المجرمون لا يردعهم التناصح بل لابد من مواجهتهم بسلطان القانون، والذي من خصائصه الإكراه على اتباع طريق الحق بالعقوبة الرادعة. ردعاً خاصاً، أذ يؤوب المجرم إلى صوابه، وردعاً عاماً، إذ يمنع أمثاله من اتباع طريقه الإجرامي. وقد صدرت قوانين (أنظمة) تحارب التطرف، وكان منها هذا الأمر الملكي الكريم، وهو أمر (تقريري) وليس إنشائي، وهذه تفرقة مهمة يجب أن نشير إليها منذ البداية، إذ أنه، أقر ما ذهبت إليه لجنة خاصة بهذا الشأن فأصبغ على رأي اللجنة سلطان القانون. وقد اوردت وزارة الداخلية في بيانها ذلك الإقرار أو الموافقة في بيانها الذي انتشر انتشاراً واسع النطاق في وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية، ووسائل التواصل الاجتماعي.
كانت مقترحات اللجنة تحديد ما يعد تيارات ذات صبغة إرهابية، والأفعال الفردية التي تعزز وتعمل على تعضيد الفكر الإرهابي، ومن ضمنها:
(كل من يقوم بتأييد التنظيمات، أو الجماعات، أو التيارات، أو التجمعات، أو الأحزاب، أو إظهار الانتماء لها، أو التعاطف معها، أو الترويج لها، أو عقد اجتماعات تحت مظلتها، سواء داخل المملكة أو خارجها، ويشمل ذلك، المشاركة في جميع وسائل الإعلام المسموعة أو المقروءة، أو المرئية، ووسائل التواصل الاجتماعي بشتى أنواعها، المسموعة أو المقروءة أو المرئية، ومواقع الانترنت، أو تداول مضامينها بأي صورة كانت، أو استخدام شعارات هذه الجماعات والتيارات أو أي رموز تدل على تأييدها أو التعاطف معها. وأن من يخالف ذلك بأي شكل من الأشكال منذ هذا التاريخ ستتم محاسبته على كافة تجاوزاته السابقة واللاحقة لهذا البيان).
إذاً، يمكننا أن نتلمس -في هذه المقالة العاجلة- عناصر توفر هذه الجريمة؛ أي جريمة التأييد والتعاطف. ببيان أركانها، وحدودها، وفلسفتها، ثم ننتقل إلى شقٍ إجرائي هو التطبيق من حيث الزمان.
أولا: أركان هذه الجريمة: هما الركن المادي، والركن المعنوي، والملاحظ في هذا الصدد، أن محل التجريم بذاته معنوي في الأصل؛ أي يدخل في نوايا المرء إذا صدرت عنه أفعال تكشف عن تلك النوايا، فالركنان متعاضدان، إذ أن الركن المادي، هو التأييد والتعاطف، والركن المعنوي وهو القصد الجنائي، هو قصد التأييد والتعاطف. وإذا كان التأييد والتعاطف معنويان، فلا يعني ذلك أنهما اندمجا اندماجاً كلياً بالركن المعنوي، فمازالا يتميزان عنه. فالقصد الجنائي هو أن تتجه إرادة الجاني الحرة عن علم إلى اقتراف الفعل المجرم كما حدده القانون. غير أن الفعل هنا هو بذاته التأييد والتعاطف، وأما وسيلة ذلك الفعل فهو عمل مادي، كالكتابة أو القول او المشاركة في أفعال ما، كالمؤتمرات مثلا تحت ظل تلك الجماعات. فالفعل هنا (التأييد والتعاطف) تكشف عنه الوسيلة. وبالتالي ليس صحيحاً أن هناك قصداً خاصاً في هذه الجريمة، لأنها من جرائم الخطر لا الضرر، إذ لا يشترط أن يقع ضررٌ ما على الدولة من ذلك التأييد او التعاطف. والخطر هنا خطر كامن، إذ يشي التأييد والتعاطف، بالوقوف مستقبلاً مع تلك الجماعات الإرهابية بالسلاح والمال والنفس. وأن هناك قابلية لاقتراف الجرائم الإرهابية، أو دعمها. كما أن هذا التأييد أو التعاطف، يعزز من إرادة تلك الجماعات في المضي قدماً في مشروعاتها الإجرامية الخطيرة، التي لا تعتق طفلا ولا بالغاً، لا رجلاً ولا امرأة، بل ولا حتى مساجد الله.
ولكن ما هي حدود التأييد والتعاطف؟
لقد جاءت المادة مطلقة إذ لم تقيد التأييد والتعاطف بصورة أو عدة صور على سبيل الحصر، بل على العكس، فالصور المعددة فيها هي صور على سبيل المثال. إذ يجوز أن يكون التأييد والتعاطف بغيرها. كما يجب أن يكون الفعل الدال على التأييد والتعاطف جازماً عليهما، فمثلاً، إذا كان هناك نقاش قانوني أو علمي، حول تنظيم الإخوان أو القاعدة أو داعش ألخ، من باب المنهجية العلمية، فلا يعد ذلك تأييداً أو تعاطفاً، وإذا كان رفع شعار لهما على سبيل السخرية من هذه التنظيمات، فلا مجال لوقوع التجريم والعقاب. وهذه مسألة موضوعية تخضع لرقابة محكمة الموضوع، يقدرها القاضي من خلال ما بُسط أمامه من ملابسات في محضر التحقيق الابتدائي أو مضبطة الجلسة القضائية نفسها.
فالقانون-في الأصل- لا يجرم على النوايا، ولكن متى ما تجسدت تلك النوايا بالفعل أو القول، جاز تجريمها، حتى ولو لم تقع جريمة ما، وهنا يمكننا تكييف ذلك التجريم، بأنه تجريم لأعمال تحضيرية. وهذا أمر جائز قانوناً، ولم يخلُ منه قانون عقابي.
ولكن ماذا عن حرية التعبير؛ الا يعد تجريم مجرد التأييد والتعاطف انتهاكا لحرية التعبير؟
لقد لخصت المحكمة الفدرالية العليا في الولايات المتحدة الأمريكية إجابة ذلك، وهو بأن لا يكون الفكر المؤيد أو المتعاطف معه يدعوا إلى العنف وانتهاك السلام الاجتماعي. وهذا مبدأ راسخ عند فقهاء القانون. إذ أن حرية التعبير، إن اتجهت إلى العنف، فهي بذاتها تنتهك حريات الآخرين. ومن المعروف أن العقد الاجتماعي الذي ينشأ بين الدولة والشعب، هو تنازل الجميع (حكاماً ومحكومين) عن قدر يسير من حرياتهم للاستمتاع بالقدر الواسع من الحرية. وعلى ذلك فنحن نرتضي بقانون يمنعنا من الاسراع بالسيارة بسرعة فائقة ليس فقط حماية للآخرين، بل أيضا حماية لنا. فنحن نمتلك حرية قيادة السيارة، ولكنها ليست حرية مطلقة. بل حرية مقيدة لحماية تمتعنا بتلك الحرية.
الجانب الشكلي أو الإجرائي، وهو المتعلق بالمسؤولية عن الأعمال السابقة على القاعدة التجريمية. والواقع أن هناك عدة محاور يجب مناقشتها في هذه النقطة اولها مبدأ المشروعية The principle of legality؛ ومضمونه ألا جريمة ولا عقوبة إلا بنص نافذ قبل ارتكاب الفعل الإجرامي، فيجب أن يقع الفعل بعد النص لا قبله، والقرار الصادر هنا يجيز تطبيق نفسه بأثر رجعي على أفعال وقعت قبله، فهل هذا مخالف لمبدأ المشروعية؟ للإجابة على هذا السؤال يجب أن نعرف أن مبدأ المشروعية قد تفرعت عنه مفاهيم قانونية، تحدد نطاق تطبيق النص من حيث الزمان، وأولها هو أن الأصل أن القانون يسري بأثر مباشر، ويترتب على ذلك أنه لا يجوز تطبيق القانون بأثر رجعي، ورغم ذلك فهناك استثناءات أجمع عليها الفقه بعضها شكلي وبعضها موضوعي، أما الموضوعي فهو تطبيق القانون بأثر رجعي إذا كان محققا لمصلحة المتهم، فإذا اقترف شخص جريمة الإحتيال وكانت عقوبتها عشر سنوات، وأثناء المحاكمة وقبل الحكم النهائي صدر قانون جديد يجعل العقوبة سبع سنوات، كان على القاضي تطبيق القانون الجديد على المتهم رغم أن الجريمة وقعت في ظل نفاذ القانون القديم. كذلك إذا صدر القانون وأباح الفعل، أو أضاف او عدل من عناصر الجريمة بحيث يستفيد من ذلك المتهم، وجب تطبيق القانون الجديد على المتهم. ويترتب على هذا؛ العكس؛ إذ لا يجوز تطبيق قانون جديد على فعل وقع في ظل قانون قديم إذا كان القانون الجديد يضيف أعباءً على المتهم، كزيادة العقوبة أو انتقاصاً من حقه في الإفراج الشرطي،...الخ. غير أن هذا أيضاً ليس مطلقاً فهناك غالبية من فقهاء القانون ترى عدم تطبيق القانون الجديد حتى لو كان هو الأصلح للمتهم، إذا كان القانون القديم قد صدر كقانون استثنائي، مثل القوانين التي تواجه حالة طوارئ مثل الإرهاب أو الزلازل أو الجائحات المرضية..الخ.
بالإضافة إلى ما سبق تجيز بعض القوانين تطبيق القانون بأثر رجعي في بعض المسائل المالية كالتهرب الضريبي والجمركي.
إذاً؛ فمبدأ المشروعية هو مبدأ راسخ لكنه ليس مطلقاً كل الإطلاق إنما يجب أن يؤخذ بالقدر اللازم لتحقيق العدالة المُثلى.
فلنأخذ إذاً بالتقييم؛ النص الذي يجيز توقيع العقاب على الأعمال السابقة على القانون كما ورد في بيان وزارة الداخلية، فهل هذا جائز؟ وهل هو استثناء من مبدأ المشروعية أم مخالف لمبدأ المشروعية.
الحقيقة أننا يجب أن نميز بين عدة أنواع من الجرائم. فهناك الجريمة الوقتية، أي تلك التي تتم فور الانتهاء من ركنها المادي، مثل القتل، فبمجرد إطلاق الرصاص (السلوك)، ووفاة المجني عليه (النتيجة)، وتأكد أن الوفاة حدثت بسبب إطلاق الرصاص (علاقة السببية بين السلوك والنتيجة). تكون الجريمة قد تمت.
ولكن هناك أنواع أخرى من الجرائم، منها الجريمة المستمرة، مثل حيازة سلاح بدون ترخيص. فالشخص الذي يضع في جيبه سلاحاً غير مرخص في الطائف، ويسافر به حتى الرياض، يظل مقترفاً لجريمة حمل سلاح بدون ترخيص. وتكون الجريمة متجددة باستمرار طوال تلك المسافة. وهذا النوع لا يهمنا هنا كثيراً، فمثلا لو غرد شخص في تويتر داعماً تنظيم داعش. فهنا الجريمة ليست من الجرائم المستمرة، بل من الجرائم الوقتية، التي اكتمل فيها الركن المادي بسلوكه ونتيجته وعلاقة السببية. لكنها تكون نوعاً ثانياً من الجريمة الوقتية، وهو ما يسمى بالجريمة الوقتية ذات الأثر المستمر. وتعامل معاملة الجريمة الوقتية.
فإذا أبدى (س) من الناس تعاطفه مع تنظيم جماعة الاخوان المسلمين عبر تغريدة، وكان ذلك قبل صدور القانون الذي يجرم هذا التعاطف، فإن ذلك الفعل يخضع في الأصل للقانون الذي صدر في ظله، ولا يمكن تطبيق القانون الجديد عليه بأثر رجعي. وذلك لأن الفعل قد تم وانقضى قبل القانون الجديد، كما أن القانون الجديد لا يصب في مصلحة ذلك الشخص وبالتالي لا يتوفر فيه الاستثناء من مبدأ المشروعية.
أيضاً لا يمكننا اعتبار القانون هنا قانوناً استثنائياً، فمن شروط القوانين الاستثنائية أنها محددة بمدة مؤقتة. أما القانون المجرم للتعاطف والتأييد فهو قانون عادي كباقي القوانين. ولذا لا يمكن تطبيقه بأثر رجعي على الأفعال التي وقعت قبل صدوره.
ومع ذلك؛ هل يمكننا أن نعتبر الفعل الواقع قبل صدور القانون الجديد، داخلا فيما يسمى بجرائم الاعتياد؟
جرائم الاعتياد، هي التي لا يعاقب عليها القانون إن وقعت مرة واحدة، وذلك لعدة مبررات، بعضها يتعلق بانتفاء الخطورة الإجرامية نسبة لأن الفعل وقع كحالة عارضة، مثل ما يذهب إليه القانون المصري وقوانين عربية أخرى من عدم تجريم الإقراض بربا فاحش إذا تم ذلك مرة واحدة، أما إذا وقع أكثر من مرة، نهضت المسؤولية الجنائية في مواجهة المتهم، إذ يكشف ذلك عن احترافه للإقراض الربوي. فهل يمكننا هنا أن نعتبر التعاطف السابق على صدور القانون من قبيل جرائم الإعتياد؟ في الواقع يصعب ذلك كثيراً، إذ حتى جرائم الاعتياد تتطلب أن يكون الفعل الأول (غير المعاقب عليه إذا لم يتكرر) واقعا تحت طائلة نص عقابي حدث الفعل في ظله. أما إن وقع الفعل وكان مباحاً، ثم جاء نص قانوني جرمه، فلا يعتد به في حساب الاعتياد.
ولكن السؤال ينعطف نحو طبيعة المساءلة الجنائية قبل صدور القانون؛ فهل يمكن اعتبار الاعتداد بالوقائع السابقة من قبيل الظروف المشددة لا كجرائم مستقلة؟ هذا ما لم يبينه النص ولم يشر له، كما أننا لم نقف على أصل الأمر، بل شاع عبر الوسائل الإعلامية، من خلال بيان وزارة الداخلية. وأتمنى أن أجد مدداً بالنص الكامل من القرار، حتى لا نكون ممن يتحدثون عن النص دون فهم كل مبناه الوارد فيه على نحو دقيق. فلقد ذكرنا أن هذا الأمر، إن هو أمر تقريري وليس إنشائي، أي أنه أقر بمخرجات اللجنة التي أوكل إليها أمر الفحص والتشريع. لذا يبدو أنه لا يوجد نص مستقل بذاته عما ورد ببيان وزارة الداخلية، ولذلك سيصعب علينا الوقوف على السياسة الجنائية التي أتبعت فيما يتعلق بالمساءلة عن الأفعال السابقة على نفاذ القانون.
هذا، وندعو الله أن يحفظ ولاة امرنا، وأن يوفقهم ويؤيدهم لما فيه صلاح هذه الأمة.